ليس خافيا على أحد، أن جغرافية الشرق الأوسط رسمت ضمن أروقة الدول الكبرى، لكن ما لا يدركه العديد منا أن أمورهم، بدءً من قيادة البلدان إلى تحركات سلطاتهم الاستراتيجية سلمت إلى مجموعة موظفين من الدرجة الثانية وأحيانا أقل، وهؤلاء هم من قاموا بمهمة التقسيمات الجيوسياسية، والفصل في الخلافات، كثيرا ما تعارضت والأوامر العليا، كحجز تفاصيل المعلومات السياسية والعسكرية عنهم، مثلما حدثت في جغرافية العراق، وهيئتها الحالية، وعملية ضم ولاية الموصل (جنوب كوردستان) إليها.
هؤلاء قاموا بترسيم جغرافية العراق وسوريا الحاليتين، وفيما بعد لبنان، ومملكة أل السعود، ومعروف في التاريخ، كيف أن الملك عبد العزيز بكى عندما حاول السير بيرسي كوكس اقتطاع جزء من شمال شبه الجزيرة العربية لضمها إلى الكويت والعراق، حسب رواية المعتمد البريطاني على الكويت (ديكسون) الواردة في كتابه (كويت وجاراتها) ومثلهم مملكة الهاشميين في الأردن، كما وحددوا أبعاد دولة إسرائيل، ومثلها تمت وباستراتيجيات مدروسة تشكيل جغرافية تركيا وإيران الحاليتين، رغم حروب هاتين الدولتين لتوسيع أراضيهما، وهم من قسموا كوردستان وألغوا مخططات تكوينها.
عمليات التنفيذ، أو قرارات التأجيل أو الإلغاء، تمت بناءً على تقارير موظفيهم لمؤسساتهم الخارجية، عكست مصالحهم قبل مصالح دولهم الاستراتيجية، غلفت معظمها بتبريرات وحجج ومسوغات واهية. وهو ما يحدث اليوم بالضبط مع جنوب كوردستان، وجنوب غربها. فمخططات تحجيم صلاحياتهما المتوقعة بأن تنتقل من الفيدرالية إلى الكونفدرالية وربما إلى الاستقلال، تتم باتفاقيات بين هؤلاء الموظفين والأنظمة الإقليمية، ترجح مصالح الشركات الرأسمالية الكبرى، مثلما كانت سابقا ترجح مصالحهم الذاتية، وكثيرا ما لا تعكس استراتيجية دولهم المستقبلية، كعملية السماح للحشد الشعبي بالتمدد في جنوب كوردستان، والذي ليس سوى حشد شيعي يمثل مصالح إيران في المنطقة، وهي تتعارض كليا وتصريحات إدارة دونالد ترامب، وصراع أمريكا معها في المنطقة، كما ويدور حديث بأنه قد نشطت من أجل تحديد صلاحيات الإقليم الكوردستاني الفيدرالي لوبي الدول الإقليمية وبلغت حد رشوة موظفي الدول الكبرى، علما بأن بعض دبلوماسي البيت الأبيض، من الدرجة الأولى، اعترضوا على مجريات الأحداث في كوردستان، ومن بينهم أعضاء من مجلس الشيوخ.
1- من يتحكم بمصير كوردستان؟
العملية تشبه ما حدث بين عامي 1919م-1922م على يد البريطانية، عالمة الآثار مس (غرتيرود بيل 1868م-1926م) صانعة العراق والأردن، والمغرمة بالعادات والتقاليد والصحراء العربية، والملقبة بـ (ملكة الصحراء) نائبة القنصل السامي البريطاني السير (بيرسي كوكس) قبل أن يتم تبديله، المغرم بالأدب واللغة العربية مثل مس بيل المدفونة في مقبرة البريطانيين ببغداد، ومثلها أفعال صاحب كتاب (ميزوبوتامية والكرد) وغيرها من الدراسات عن اللغة الكردية وتاريخهم، الميجر (سون) والذي أتقن اللغة الكردية، المتعارض مع طموحات الشيخ محمود البرزنجي، وكان من بين المعترضين على طلب ونستون تشرشل لإقامة مملكة كوردستانية، بجانب مملكة العراق الهاشمية حينها.
ومن خلال دراسة صفات أولئك الموظفين ونزعاتهم، يرجح أن النزعة الذاتية كانت وراء تلك المواقف أكثر من أن تكون استراتيجية تخدم فيها مستقبل بريطانيا، وقد ساندت هذه النزعة سبب سيكولوجي، وهو حب المستشرقين الأوربيين طبيعة الصحراء وشعوبها وتأثرهم بعادات العرب والإسلام كمغامرين، بعكس الجبال وشعوبها المعروفة عندهم والمتشابهة مع طبيعتهم الباردة، كطبيعة جبال كوردستان، باستثناء البحث عن المجهول في لغة وتاريخ الشعب الكوردي، خاصة بعدما عرفوا بأنهم أحفاد حضارات وإمبراطوريات سابقة، وهي التي جذبت أمثال السير بيرسي كوكس ومس بيل والميجر سون دراسة لغتهم وتاريخهم دون الدعم السياسي.
واليوم يعيد موظفو إدارة البيت الأبيض، وفي مقدمتهم (بريت مكغورك) التاريخ ذاته، وبغياب نزعة المغامرة الشخصية، مقابل المغامرة السياسية، تفضيل التكتيك السريع على الاستراتيجية الطويلة المدى، وتفضيل مصالح الشركات الرأسمالية الكبرى على مصالح الإمبراطورية الأمريكية، لأنها على الأغلب تعكس نزعته ونزعة وزير خارجية البيت الأبيض تيلرسون، كرئيس سابق لشركة اكزون – موبيل. وسيستمر التلاعب الدبلوماسي، بيد هؤلاء الموظفين الذين لا يريدون إيصال مجريات الأحداث إلى البيت الأبيض، حيث مركز القرارات الاستراتيجية، مثلما حدثت بين إصرار ونستون تشرشل على فصل كوردستان عن العراق، عندما كان وزيرا للمستعمرات، وقنصله السامي بيرسي كوكس على العراق. وعلى الأغلب أن السيد (بريت مكغورك) يقزم الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة أمام موظفو الكرملين الذين يمتثلون لاستراتيجية دولتهم والمتمثلة بالتمدد الشيعي. وسيخسر الكورد وقيادة حكومة الإقليم الأكثر من مكتسباتهم فيما إذا لم يتداركوا هذه المعضلة، وإذا ظلت إدارة البيت الأبيض غير مطلعة على التفاصيل الدقيقة حول مجريات الأحداث في كوردستان، ولم يتمكن الكورد من إقناع الكرملين على مساعدتهم.
2- الموقفين التاليين المتناقضين يبينان حقيقة المواقف الدولية تجاه الكورد وخاصة الأمريكية:
الأول، خرج من وزير خارجية فرنسا السابق (برنارد كوشنير) عندما قال إن أمريكا خانت أقرب أصدقائها في المنطقة، وفي أحلك الظروف، وهو خطأ استراتيجي، وستدفع ثمنها من خلال عدم قدرتها على إيقاف التمدد الإيراني في المنطقة، في الوقت الذي كانت عليها أن تدعم الكرد لتحقيق استقلال كوردستان.
والثاني، حديث أحد الدبلوماسيين الأمريكيين المخضرمين، (دنيس روس) والذي يتوافق وموقف وزير خارجيتهم (ريكس تيلرسون) والمبني على مصالح أمريكا الاقتصادية الأنية، والذي تم لربما لتملق دبلوماسي ما لإيران، ضمن مجريات أحداث قضية المفاعل النووية، وركزها على أن السيد مسعود بارزاني سقط في خطا استراتيجي كبير عندما لم يستمع لرسائلنا، ولم يؤجل الاستفتاء. وبالتالي مال الموقف الأمريكي (في الواقع كان موقف وزارة الخارجية لوحدها، وعلى الأغلب ستظهر ردود أفعال سلبية مستقبلا، مثلما تم قبل فترة من قبل بعض أعضاء مجلس الشيوخ والبنتاغون) نحو دعم سلطة بغداد، ومعهم الحشد الشعبي، والتابعتين لإيران بشكل مباشر، رغم كل الادعاءات المنافية، وهذا ما صرح به وزير الدفاع الإيراني قبل أسابيع، كتهديد أو طموح، قائلاً إن العراق من الموصل وحتى البصرة هي جزء من الإمبراطورية الفارسية وعادت أو ستعود إليها قريبا بعض دول الخليج.
3- ردود فعل القوى الإقليمية والكبرى
لقد كانت ردود فعل السلطات الإقليمية واضحة، لكل كردي، ومن ضمنهم حكومة الإقليم، والسيد مسعود بارزاني، لكن المفاجئ هو ردود الدول الكبرى المشابهة لمواقف بريطانيا وفرنسا في بداية القرن الماضي. فرغم ترجيح الثقل السياسي الدبلوماسي لصالح بغداد في العلن وللدول الإقليمية المعادية لإقامة كوردستان فيما وراء الستارة، ظلت شبه صامته ولم تخرج سوى بتصريحات بسيطة عن طريق موظفين من الدرجة الثالثة وأقل، وأهمها الجملة المختصرة والبسيطة الصادرة من المتحدثة باسم البيت الأبيض (سارة هاكابي ساندرز) بأنهم يراقبون الوضع بين أربيل وبغداد عن قرب.
وعلى الأغلب حافظوا على موقفهم الجامد إلى حين انتهاء وزير الخارجية من جولته الأسيوية والتي حدثت خلالها المفاجئة غير المتوقعة، أثناء وجوده في السعودية ولقائه مع زعماء دول الحلف السني وبينهم حيدر العبادي رئيس العراق الشيعي، والذي رد بعد عودته إلى بغداد وبقوة على تصريحه حول الميلشيات الإيرانية، وعلى الأغلب تصريح رئيس وزراء العراق الشيعي، يعد أحد أهم المواقف التي قد تؤدي بوزير خارجية أمريكا، ولربما البيت الأبيض (فيما إذا بلغت كل التفاصيل إلى الرئيس دونالد ترامب) لإعادة دراسة موقفه السياسي، حول ما جرى في جنوب كوردستان والعراق، والمفضل فيها مصالح الشركات الأمريكية على مصالح الإمبراطورية الأمريكية الاقتصادية الاستراتيجية. ولربما استمر منطق تجميد الموقف الأمريكي إلى حين انتهاء الرئيس دونالد ترامب من جولته الشرق الآسيوية، والتي تعد من ضمن إحدى أكبر القضايا الأمريكية الاستراتيجية.
4- ردود فعلنا ككورد أمام الواقع والتاريخ
ولا نزال نحن الكورد دون سوية الربط بين الدبلوماسية العليا والعلاقات الأنية مع موظفيهم العاملين في المنطقة، وننقب عن الاحتمالات دون فعل، في المستقبلين القريب والبعيد، وهل سترجح لصالح كوردستان، أم لا؟ مثلما يتم مناقشة قضية الاستفتاء ووضع المناطق المتنازعة عليها، وخسارة كركوك ونفطها، بل والنكسة بكليتها.
وكيف كانت ستجري الأمور في المنطقة لو وقفت وزارة الخارجية الأمريكية وموظفوها في المنطقة، وبشكل خاص (بريت مكغورك) المسؤول عن جنوب، وجنوب غربي كوردستان، إلى جانب حكومة الإقليم؟ ومن ضمنها قادم جنوب غربي كوردستان، ذات العلاقة المتينة بأمريكا، عسكرياً على الأقل، والمتجهة إلى حالة الضعف بعد الخسارة التي منيت بها جنوبها، بعد إن كانت تخطط لبلوغ البحر الأبيض المتوسط، وتشكيل فيدرالية جغرافية واسعة المساحة. والإقليمين ورغم خلافاتهما كانا سندين لبعضهما من حيث البعد القومي الديمغرافي والجغرافي، مع ذلك لا تظهر أية بوادر عمل مشترك بين طرفي كوردستان والأحزاب المهيمنة، وهم يرون كيف أن السلطات الإقليمية تتعامل مع بعضها وتسخر أمثال (بريت مكغورك) وتحرك لوبيها في الأروقة الدبلوماسية للدول الكبرى.
المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب وليس له علاقة بوجهة نظر الموقع
التعليقات مغلقة.